الخميس 25/04/2024
11:11 بتوقيت المكلا
مقتطفات من خطبة " تربية الضمير "للشيخ الدكتور / زين العيدروس الجمعة 12 رمضان بجامع الروضة بالمكلا
المكلا/موقع محافظة حضرموت/مكتب وزارة الأوقاف والإرشاد/خاص
الجمعة 17/مايو/2019
11-5-2.jpg
شاءتْ إرادةُ اللهِ أن يخلقَ للإنسانِ ما يتلائمُ مع ظرفِه، وينسجمُ مع حياتِه، ويتماشى مع طبيعتِه؛ فكانتِ المخلوقاتُ مِنْ حولِه أنيسَه ومَطْعَمَه، والأرضُ مِهَادَه، والسماءُ لِحافَه، والليلُ والنهارُ زمانَه، ((هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))، ومع تكاملِ مادَّةِ الحياةِ اسْتَوْدعَ الحقُّ سبحانَه في قلبِ الإنسانِ ما يَسْتَوجِبُ الموائَمَةَ.

مع مَنْ حولَه ويصلحُ لهذا التكاملِ؛ فكانتِ الغريزةُ والفطرةُ والضميرُ؛ إذ بالغريزةِ يَحفظُ نوعَه بما يكفلُ استمرارَه وبقاءَه ((فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً))، وبفطرتِه يهتدي إلى التوحيدِ ويستجيبُ لبواعثِ الإيمانِ ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ))، وبالضميرِ الحيِّ اليقظِ يندفعُ نحوَ الطريقِ القويمِ والعملِ الراشدِ (( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)).

        إنَّ الضميرَ هو مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ، والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها، وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ، كما قالَ الحقُّ سبحانه: (( لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ))، والضميرُ هو الرادعُ عنِ المعاصي والآثامِ الذي يُجَنّبُكَ مقاربتَها ويُثنيكَ عن تكرارِها؛ فقد وصَفَ اللهُ عبادَه المتقينَ فقالَ: ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) ، ولذلكَ ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ -عليه السلامُ- حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال: (( مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) ، فأكرمْ بهِ وبسلسلتِه الشريفةِ. فالتزكية للضمير بتطهير النفس عن الميل إلى ما حرّم الله تعالى ورسوله، والانحياز إلى ما أمر الله به ورسوله، فحينئذ يثمر قلبه طعما ، ويجد للعبادة ذوقا، وللخير شوقا ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( ثلاث من فعلهنّ فقد طعِم طعم الإيمان: ١ من عبد الله وحده فإنه لا إله إلا الله، ٢وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه ،٣ وزكّى عبدٌ نفسه ، فقال رجل : ما تزكية المرء نفسه يا رسول الله؟ قال : يعلمُ أن الله معه حيثما كان )رواه البيهقي في سننه الكبرى، وأصله عند أبي داود مختصرا.

وصدق الشاعر بقوله : الله يدري كل ما تضمرُ يعلمُ ما تخفي وما تظهر وإن خدعت الناس لم تستطع خداع من يطوي ومن ينشر. فلمّا تحققت هذه المعاني الثلاث عند الصالحين كانت عاداتهم عبادات!! وكان يدعو أحدهم فيقول : اللهم اجعل عاداتنا عبادات تامات موصلات. ** إنَّ الضميرَ يُنجي صاحِبَه منَ المهالكِ، ويُبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ومن صفاتِ الضميرِ المؤمنِ أَنّ صاحِبَه دائمُ التذكّرِ فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ، وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ، يقولُ اللهُ تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))، ولذلك وُصِفَ الضميرُ الصالحُ بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛ فكانت نفسُه لوَّامةً، ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ نفسُه أمَّارةً.     يتأثَّرُ الضميرُ الإنسانيُّ بما تتأثرُ به النفسُ؛ فيتضائلُ ويقلُّ قدرُه ويخبو نورُه إذا انجرفت النفسُ وراءَ وساوسِها ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ))، واتبعَت همزاتِ الشياطينِ وإغواءَهم (( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ))، وانساقتْ وراءَ ضلالتِها ((فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا))، وكانت رَهْنَ هواها ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ))، فاختلَّ ضميرُها وضعُفَتْ قوّتُه وصارَ الإنسانُ عبداً لشهواتِه يَرَى الباطلَ حقَّا والشرَّ خيرا، لا يردعُهُ رادعٌ ولا يحجُزُه حاجزٌ، ولذلكَ قيلَ: "مَنْ توهَّمَ أنَّ لهُ عدواً أعدى من نفسِهِ قلَّتْ مَعْرِفَتُه بنفسِه"، وقد يسمو الضميرُ -عبادَ اللهِ- ويعلو قدرُه ويزيدُ ضياؤُه إذا خالفتْ نفسُهُ هواها فيما لا ينفعُها، يقولُ الحقُّ سبحانه: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى))، وصارَعَتْ وسوسَةَ شياطينِ الجنِ والأنسِ ((وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ))، وانكبَّتْ على الباقياتِ الصالحاتِ ((قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ))، حينَها يقوى الضميرُ وتُضَاءُ جنباتُ النفسِ وتَخْصُبُ أرضُهَا؛ فيكونُ مِنْ ثمرِهَا صدقُ صاحِبِها وأمانَتُه، ومروَءتُه وإخلاصُه وعِفَّتُه، ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)).

    إن الضميرَ كالطفلِ فما دُمْتَ تُغَذِّيه بالغذاءِ الصالحِ ينمو ويقوَى، أما إذا أهملْتَه فإنه يَضْمرُ ويَضْعُفُ، وضمورُه دمارٌ لصاحبِه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بغيابِه يزولُ الرقيبُ الذي يوجِّهُك إلى الخيرِ ويدفعُك إلى البرِّ ويُقْصِرُ خطاكَ عن الشرِّ ويَحْمِيكَ من ضَلالِ النفسِ. وصدق البوصيري عندما قال : والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم . ونموُّ الضميرِ يكونُ بالدوامِ على الأعمالِ الصالحةِ وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ في نفسِكَ ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ))، كما ينمو الضميرُ ويترَبَّى مِنْ خلالِ ترطيبِ اللسانِ بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ والضميرُ يَقِظاً في كلِّ حالٍ (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي))، والتزكية قد تكون من المؤمن لنفسه بنفسه، بأن يرصدَ الخلل في ذاته فيعزم على تصحيحه، فإن لم يستطع فليستعن على ذلك بالله تعالى،ثم بصحبة الصالحين من أهل الفضل وأهل العلم ، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين )، ولابد أن يلجأ العبد إلى الله تعالى ، ويسأله العون على إصلاح نفسه وتزكيتها، فيدعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو :( اللهم آتِ نفسي تقوها، وزكِّها أنت خيرُ من زكّاها أنت ولِيُّها ومولاها ) رواه مسلم. فشهر رمضان زمن خصبٌ لإصلاح ضمائرنا وأسرارنا بشحنها بطاقات إيمانية، ونفحات إلهية، نتزود منها في عامنا كلّه، وفيه ليلة القدر، يعظم الله لنا فيها الأجر، وتستنير فيه القلوب، وتضاء لنا فيه الدُروب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:( لله ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر ، من حُرِم خيرُها فقد حُرِم)رواه مسلم.

 ولا ننسى أيها الإخوة في هذا الشهر المبارك من نظافة بيوتنا وشوارعنا كما نعتني بطهارة ضمائرنا وقلوبنا، فقد جمع الله تعالى في سياق واحد بطلب الطهارتين معا، إشارة لذلك ولتكامل الطهارتين فقال سبحانه :(( وثيابك فطهر، والرجز فاهجر )).    فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّكم مُقبلون على ليالي قدرية مباركة ؛ فاستقبلوها بضمائِرَ نقيّةٍ وقلوبٍ صافيةٍ وعقولٍ واعيةٍ وأَنْفُسٍ زَكِيَّة، ورَبُّوا ضمائرَكم على عَمَلِ الخيرِ والبعدِ عن كلِّ أذىً وشَرٍّ؛ فبذلكَ تأنسُونَ بِقُرْبِ ضَمِيرِكم منكم، وصُحْبَتِهِ مَعَكم.



  • إقرا ايضاً