الإفتتاحية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الموفق من يشاء لفعل الخيرات والهادي لإنشاء الوقف على المبرات والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير من دل وعرف على مايوجب الخير والبركات في الدنيا وبعد الممات القائل ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ) . صلي الله عليه وعلى آله وأصحابه  ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الوقوف بين يدي رب البريات .

أمـا بعـد :


            فإن الخير في الأمة المحمدية إلى يوم القيامة لن ينته مصداقاً لقول النبي الله عليه وآله وسلم ( الخير في وفي أمتي إلى قيام الساعة ) فقد توالت اعمال الخير من لدن محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضوان الله عليهم إلى أيام التابعين وتابعي التابعين إلى أيامنا وأعمال الخير مستمرة لم تنقطع إلا إنها قد تخفق من حين إلى آخر .

            وحتى نزداد معرفة بأهمية الوقف في الإسلام نقدم نبذة يسيرة عن الوقف فالوقف سنة من السنن النبوية قولاً وفعلاً ومازالت هذه السنة حية لدى المسلمين فكم نفعت الأوقاف الدول والشعوب الإسلامية في كل الفترات ولذلك كان لها منزلة عظيمة عند الله تعالى فالله سبحانه وتعالى يجري لصاحبها الأجر حتى بعد انقطاع عمله بالموت فالذي بنى مسجداً أو وقف سقاية أو بئراً يشرب منها الناس أو يأوي إليها الغرباء أو رباط علم يدرس فيه طلاب العلم أوغير ذلك من الأوقاف والمبرات فإنه قد عمل لنفسه صالحاً ومهد لها في الدنيا بالحياة الطيبة وفي الآخرة بالنعيم الأبدي الذي لاينقطع قال تعالى (( ماعندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ماكانوا يعملون )) النحل آية  96 _ 97 .

        وقد نص القرآن على الوقف وكذلك السنة قال تعالى (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ) آل عمران 92 . فإن هذه الآية تكاد تكون نصاً في الوقف وفهمها الصحابة على هذا المعنى فأوقفوا أعز أموالهم في سبيل الله .

            أخرج البخاري من حديث أنس بن مالك أنه قال كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلاً وكان أحب أمواله بير حاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما أنزلت (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) قام أبو طلحة فقال يارسول الله ان الله يقول : (( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون )) وأن أحب أموالي إلي بير حاء ، وأنها صدقة لله أرجوا برها وذخرها عند الله ، فضعها يارسول الله حيث أراك الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( بخ ذلك مال رايح ، ذلك مال رايح ( وفي رواية رابح ) وقد سمعت ماقلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين قال أبو طلحة : أفعل يارسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ) . وفي معنى هذه الآية آيات كثيرة .

وأما السنة النبوية فأحاديثها كثيرة منها :

الحديث الذي تقدم ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية الخ ..) والصدقة الجارية هي العين التي يوقفها فيستمر نفعهما من ريعها أوعينها .

أخرج البخاري عن عمرو بن الحارث بن المصطلق ختن رسول الله أخو جويرية بنت الحارث قال (ماترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الموت درهماً ولا دينارا ولاعبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة ) .

أخرج البيهقي في الكبرى عن عائشة رضي الله عنها ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) جعل سبع حيطان له صدقة على بني عبد المطلب وبني هاشم ) .

وأفعال الصحابة كثيرة منها :

ماسبق من أبي طلحة عندما وقف بير حاء .

وقف أبي الدحداح الأنصاري رضي الله عنه فإنه لما نزل قول الله تعالى ( من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ) الحديد آية 11 وكان نازلاً في حائط له هو وأهله جاء لامرأته فقال ( أخرجي فقد أقرضته ربي ، فتصدق بحائطه على الفقراء [ الإصابة للحافظ ابن حجر 4/9 ] .

أخرج البخاري أن عمر بن الخطاب ما أن أصاب أرضاً بخيبر حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأمره فيها فقال يارسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) فتصدق بها عمر أن لا يباع ولا يوهب ولا يورث وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف .

ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول )

مال مخيريق جعل رسول الله ماله أوقافاً بعد قتل في غزوة أحد .

بئر رومه التي وقفها سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ( البخاري )

وقف سيدنا أبوبكر الصديق رضي الله عنه دوره بمكة على أولاده وأولاد أولاده .( البيهقي في السنن الكبرى ) .

وقف سيدنا علي بن أبي طالب أرضاً بينبع ( البيهقي في السنن الكبرى )

الأرقم بن الأرقم عمد إلى داره التي كان يأوي إليها النبي صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام فتصدق بها على ولده .

وقال سيدنا جابر بن عبدالله رضي الله عنه ( لم اعلم أحداً من المهاجرين والأنصار إلا حبس مالاً من أمواله مؤيدة لاتشتري أبداً ولا توهب ولا تورث ) .

أهم مقاصد الوقف :

لابد أن الشرع الحكيم قصد حمكاً ومقاصد معينة من خلال تشريع الوقف منها على سبيل المثال لا الحصر :

أ_ تطهير النفس الإنسانية وانتزاعها من ممالك النزعة المادية والأثرة . فإذا تطهرت النفس وخلصت للإيثار وحب الغير كانت مصدر خير ونفع للمجتمع .

ب _ مساهمة في تحقيق المصالح العامة وسد احتياجات المجتمع .

ت _ الوقف أفضل من المصدقات الأخرى المنقطعة لأنه مصدر تمويل دائم ولأن طبيعته تمنع المستفيد من استهلاك أصله ، فلا يباع ولا يشتري ولا يوهب ولا يورث .

الأوقاف : إدارتها ودورها في التاريخ الإسلامي :

بمرور الزمن وبتزايد الإقبال على وقف الأموال في أوجه الخير المختلفة ظهرت الحاجة إلى الجهات العامة لترعى هذه الأوقاف وتحافظ عليها وقفاً لإدارة الواقفين وشروطهم . وبدأ القضاة المسلمون يشرفون على ولاة الأوقاف ليتأكدوا من التزماتهم لتوجيهات أصحاب الوقف ويشرفون مباشرة على الأوقاف التي لا ولاة لها .

    وفي عهد هشام بن عبدالملك قام في مصر القاضي ثوبة بن نمر بن حومل الحضرمي بتسجيل الأوقاف وجمعها لأول مرة في سجل خاص كما أنشأ لها ديوانا مستقلا عن باقي الدواوين الأخر ثم بدأت الدواوين تشكل في باقي مناطق الدولة الاسلامية حتى أصبح للأوقاف في العهد العباسي رئيس عام يسمى ( صدر الوقوف )   

            وفي العهد العثماني تكونت للأوقاف تشكيلات إدارية وصدرت قوانين وأنظمة متعددة تنظم شؤونها ومازالت بعض قوانين الوقف العثمانية يعمل بها حتى الآن في بعض البلاد الإسلامية .

 والوقف في الإسلام قد اتسع نطاقه وتشعبت مجالاته حتى غطت مختلف أوجه المصالح العامة للأمة الإسلامية بل وتعدت مجالات الإنسان وخدماته لتشمل مجال خدمات الحيوانات حتى وصل الوقف إلى أكثر من مائة وخمسين نوعاً من أنواع الوقف .

            فجزى الله أجدادنا وآباءنا خير الجزاء على ماقدموه وما أنفقوا من أعز أموالهم ابتغاء وجه الله تعالى .

نسأل الله أن يوفق الخلق للسير على طريق السلف رضوان الله عليهم